ماذا يعني لك الشارع حين تعيش بين عالمين؟
أقدس سيارتي كثيرًا، فهي تأخذني بين عالمين مختلفين ، عالمين متوازيين كل أسبوع ، أن تعيش في الريف وتولد في أراضٍ خضراء وسط عائلة كبيرة ثم تنتقل لعالم المدينة حيث الزحام والجسور وإشارات المرور والأسئلة الكبيرة في الحياة
إنها معضلة كبيرة أن تنسلخ من جسدك ثم تعود لتلبسه مرةً أخرى كل أسبوع !
وقتٌ قصير لا تستطيع فيه الهرب من نفسك أو العودة إليها، مشتت، تبحث عنها بين عالمين. تفاجئك أحيانًا بظهورها في عالمين أيضًا، مثلاً أن تكون في البيت الذي ولدت فيه وتبدو روحك متمدنة كثيرًا يمنحك الكثير من الأسئلة ويمنح الآخرين كثير من الاعتقادات بشأنك، إنه لأمرٌ جلل أن توضح نفسك في كل حين، وتنسى كيف فهمت ذاك الشخص وما آخر استنتاجاتك لطريقة التعاطي مع معتقداته، وفي كل مرة تلتقي فيها بِوعيٍ قديم في شخص آخر تود لو تغير كل شيء، ولكن سُرعان ما يخيب ظنك، حيث تتذكر أن من بقي في الريف، ربما يُحب كيف يفكر، وكيف يعيش، ويرتاح لذلك الثبات في الأشياء والمعتقدات، تشعر أحيانًا بالغِبطة حيث لا تقض الطموحات الكبيرة في الحياة مهجع أهل الريف لأنه البساطة هي نمط الحياة، والزهد أسلوبها في مراتٍ كثيرة.
أما ظهور روحك الأولى في المدينة قد يثير علامات التعجب لدى الآخرين فيعتقدون أن غضبك أحيانًا عائد لعِرقك الذي لا يطيق الصبر وأحيانًا يفهمون هدوءك ضعفًا، أنت غير قابل للتوقع في المدينة فمليون موقف وكلمة قد يحتاجا لمليوني تبرير بمليار من الكلمات التي لا تنتمي للهجة واحدة وقد تترجم للغة أو لغتان أو أكثر! مع ذلك يتسنى لك أن تكون أنت، وقتك، وطعامك ومساءاتك تحكمها الأنا والرغبة، كما أن قول كلمة “لا” يتطور بتطور مجابهتك لأهل المدينة، ربما يثير الكرم، والمروءة رغبتك في تجنب صد طلبات من حولك، ومع ذلك تتعلم في نهاية الأمر أنهم سيحترمونك مع اللاءات أكثر.
تناقض مدهش يتطلبك منك أن تطور نسخة جديدة منك تجابه فيها فريقين متناقضين فاللاء في المدينة تحفظ لك احترامك في أحيان كثيرة بينما النعم في القرية ترفعك لقمة الهرم، وهكذا كلما اعتدت على مكان ما صعب التعايش في مكانين بشكل كلي لتتخلى بمرور الزمن بالأكثر عن طرف واحد أكثر من الآخر، فأن تكون هُنا وهناك يتطلب منك صراعات داخلية لا تنتهي إلا بتطوير مزيج من الشيئين مع عاطفة أقوى في تفهم الجميع واتخاذ قرارات مرنة لا تتأثر بصفعات أهل القرية أو نظرات أهل المدينة!
في الشارع أنت في هدنة سلام مع نفسك، تسمع الموسيقى التي تحب فلا يهم ما الذي يعتقده أهل الريف أو المدينة بشأن عبد الحليم حافظ أو أصالة نصري أو حتى عمرو دياب ، ولا يهم إن كنت تسمع dances monkey، في الطريق أفكارك ملكك والعالم ملكك أنت، ومهما ظننت أن الأشجار المحاذية للطريق ترقص لك لا أحد سيقول لك عكس ذلك وإن قلت أن الغيوم تجري خلفك مثل موكب لن يطردك أهل الريف من ست قرى ولن يفتح أهل المدينة قضيةً ضدك، حتى أن القمر والشمس تتبعانك!
الطريق من وإلى المدينة والريف ، قضية سلام وفرض إيقاف إطلاق للنار، لماذا؟
لأنك تسيطر على أفكارك وحدك، وتشعر أن احساسك إتجاه الأشياء حقيقي وموجود ويستحق أن تُلقي لهُ بالاً ، وأنك إن شعرت بالألم والغربة فذلك لأنك في الطريق فحسب ولديك بيت تعود له، ولديك سرير تستلقي فيه فكُل الأشياء البعيدة جميلة ومحببة وقابلة للاحتمال والتحمل، لأنك في الطريق من وإلى البيت هدفك قصير وواحد إما البيت وإما السكن، وأهدافك السامية هي ذاتك وإن كانت ضائعة فأنت تحملها معك، وربما أهم أشياءك في صندوق السيارة.
في الطريق روحك ملكٌ لك وحدك وفي المدينة تتوزع بين أصحاب المال والجاه والحاسدين والأصدقاء وأشباه الأصدقاء والزملاء والمنافسين وجيرانك الأجانب وبواب البناء، أما في الريف فروحك وذاتك وطاقتك موزعة على قرية وسبع قرى مجاورة فأنت هناك تحمل الجميع على رأسك والبعض في قلبك.
ما أروع السيارة وما أروع الطريق ، أنت مع نفسك والمدينة في المدينة والريف في الريف.