كم هي ذكرى حُلوة، تشبه ألوان الحلويات في المتاجر، تلك التي تصطف بكل الألوان على الأرفف ولا تمتُ للطعام بِصلة، لكنها حامضة، سكرية، ولا تشبع منها مهما أكلت، تلك الذكرى حين انتهى العام الأول من فصلي الدراسي الثاني في المدرسة الابتدائية، أحضرت بعض الفتيات دفاتر صغيرة للرسائل والاهداءات، لم تكُن لديّ صداقات كثيرة، لكنني شعرت بالرغبة في ذلك، أن يكون لي دفتر غير ذلك المليء بالأسطر وأكتب فيه واجب النسخ أو مسائل الرياضيات، عرفت حينها، أنه يمكن للدفتر أن يكون ممتعًا لمرة، وعرفت أن اسمها (مُذكّرة)، لم يكُن أبي يعرف ما الذي تعنيه مذكرة بذات المعنى الذي أردت، واستمريتُ بشرح الأمر لعدة أيام: “دفتر ملون، فيه قلوب أو زهور، للصديقات”، بعد أن استسلم أخذني للمكتبات،  ولكن لم أجد المذكرة الملونة الجذابة التي أطمح لها، في متجرين، رضخت للأمر الواقع، وأخذت دفترًا أزرق صغير ذو اللولب المعدني. ذاك الذي نجده في جميع المتاجر والبقالات العادية، ولأنني لم أكن أرغب حقًا برسائل من صديقاتي، بدأت بكتابة شيء مختلف، قصة من نسج خيالي، تلك القصص التي أفكر بها وأنا أجلس على نافذة غرفتي عصرًا وأراقب الشارع، كانت الخيالات ملاذي الوحيد كي لا أُجن من الوحدة في طفولتي الأولى، كتبت قصة، وأريتها أمي ثم والدي، كانا سعيدين بالفكرة، ويا لسعادتي حين قال والدي أنه سيشتري لي مذكرة جديدة إذا ملئت الأولى بالقصص والحكايا، تذكرت هذه القصة وأنا أستعيد الماضي وأفتش عن فرصة جديدة للاقتراب مني. 

ما الذي فعلته كلمة والدي تلك؟ كانت ملاذي حين أحتار عمّا أجيده في الحياة، حين أخاصم الحياة والمهنة والبشر وأرى نفسي من خلال تلك المرآة، أتذكر هذه اللحظة، أنني أجيد شيئًا واحدًا، وإن لم يكُن معترفًا به بعد، أنقذتني تلك الجملة مرات عديدة، حين كنت أغرق في محيط أفكاري الدموية عني، وأصل للحضيض، كانت طريقتي الوحيدة التي أدّعي بها أنني مُباركة. 

بمرور الزمن، أخذتني الأحداث المحيطة، الصديقات، المسابقات، التنافس، المتعة، الرغبة في التميز، المراهقة، التمرد، الشعور بالدونية، التفوق، الإهانة، التجارب، قول نعم أكثر من لا،  وهكذا فقدتُ صوتي، صوتي الذي أصدّقه وأثق به، وأميزه من بين آلاف الأصوات، فقدت قدرة التعرف عليه، ولم يكُن سهلاً أن أستعيده، لأن الأمر أشبه باستعادة النظر والسمع معًا مجددًا،  وأنا أشارف على البدء في عقدي الثالث، خضعت لكثير من تمارين العصر الحديث، الكتب، القصص، المؤثرين، الخبراء المتحدثين، المدربين، بينما استمرت الحيرة، حيث تقول لي الليالي أمرًا والصباحات أمرًا آخر! 


لذلك خطرت لي تلك الذكرى حين قرأت سؤالًا، ما الذي كنت شغوفًا به حين كنت طفلاً وكيف حدث الأمر؟ أعترف أنه كان سؤالاً جيدًا للغاية!